الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الجلالين ***
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} قضينا بفتح مكة وغيرها في المستقبل عنوة بجهادك {فَتْحاً مُّبِيناً} بيِّناً ظاهراً.
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} {لّيَغْفِرَ لَكَ الله} بجهادك {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} منه لترغب أمّتك في الجهاد وهو مؤول لعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالدليل العقلي القاطع من الذنوب واللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب {وَيُتِمُّ} بالفتح المذكور {نِعْمَتَهُ} إنعامه {عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ} به {صِرَاطاً} طريقا {مُّسْتَقِيماً} يثبتك عليه وهو دين الإِسلام.
{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} {وَيَنصُرَكَ الله} به {نَصْراً عَزِيزاً} ذا عزّ لا ذلّ معه.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} {هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة} الطمأنينة {فِى قُلُوبِ المؤمنين لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} بشرائع الدين كلما نزَّل واحدة منها آمنوا بها منها الجهاد {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} فلو أراد نصر دينه بغيركم لفعل {وَكَانَ الله عَلِيماً} بخلقه {حَكِيماً} في صنعه: أي لم يزل متصفا بذلك.
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)} {لّيُدْخِلَ} متعلق بمحذوف أي أمر بالجهاد {المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً}.
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظَنَّ السوء} بفتح السين وضمها في المواضع الثلاثة، ظنوا أنه لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} بالذل والعذاب {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} أبعدهم {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} أي مرجعاً.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)} {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً} في ملكه {حَكِيماً} في صنعه، أي لم يزل متصفاً بذلك.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)} {إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} على أُمَّتك في القيامة {وَمُبَشّراً} لهم في الدنيا بالجنة {وَنَذِيرًا} منذراً مخوّفاً فيها من عمل سوءاً بالنار.
{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} {لِيُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} بالياء والتاء فيه وفي الثلاثة بعده {ويُعَزِّرُوهُ} ينصروه وقرئ بزاءين مع الفوقانية {وَيُوَقِّرُوهُ} يعظموه وضميرهما لله أو لرسوله {وَيُسَبِّحُوهُ} أي الله {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} بالغداة والعشي.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} بيعة الرضوان بالحديبية {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} هو نحو {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [80: 4] {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} التي بايعوا بها النبي أي هو تعالى مطلع على مبايعتهم فيجازيهم عليها {فَمَن نَّكَثَ} نقض البيعة {فَإِنَّمَا يَنكُثُ} يرجع وبال نقضه {على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله فَسَيُؤْتِيهِ} بالياء والنون {أَجْراً عَظِيماً}.
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)} {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} حول المدينة، أي الذين خلفهم الله عن صحبتك لما طلبتهم ليخرجوا معك إلى مكة خوفا من تعرّض قريش لك عام الحديبية إذا رجعت منها {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} عن الخروج معك {فاستغفر لَنَا} الله من تَرْك الخروج معك قال تعالى مكذبا لهم: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي من طلب الاستغفار وما قبله و{مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} فهم كاذبون في اعتذراهم {قُلْ فَمَن} استفهام بمعنى النفي أي لا أحد {يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} بفتح الضاد وضمها {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي لم يزل متصفاً بذلك.
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)} {بَلْ} في الموضعين للانتقال من غرض إلى آخر {ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ} أي أنهم يُسْتَأْصَلون بالقتل فلا يرجعون {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} هذا وغيره {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} جمع بائر، أي هالكين عند الله بهذا الظنّ.
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)} {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً} ناراً شديدة.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)} {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي لم يزل متصفاً بما ذكر.
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)} {سَيَقُولُ المخلفون} المذكورون {إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ} هي مغانم خيبر {لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا} اتركونا {نَتَّبِعْكُمْ} لنأخذ منها {يُرِيدُونَ} بذلك {أَن يُبَدّلُواْ كلام الله} وفي قراءة «كَلِمَ الله» بكسر اللام أي مواعيده بغنائم خيبر أهل الحديبية خاصة {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي قبل عودنا {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي نصيب معكم من الغنائم فقلتم ذلك؟ {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ} من الدين {إِلاَّ قَلِيلاً} منه.
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب} المذكورين اختباراً {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى} أصحاب {بَأْسٍ شَدِيدٍ} قيل هم بنو حنيفة أصحاب اليمامة، وقيل فارس والروم {تقاتلونهم} حال مقدرة هي المدعو إليها في المعنى {أَوْ} هم {يُسْلِمُونَ} فلا تقاتلونهم {فَإِن تُطِيعُواْ} إلى قتالهم {يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} مؤلماً.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} في ترك الجهاد {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ} بالياء والنون {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ} بالياء والنون {عَذَاباً أَلِيماً}.
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ} بالحديبية {تَحْتَ الشجرة} هي (سَمُرَة)، وهم ألف وثلاثمائة أو أكثرثم بايعهم على أن يناجزوا قريشاً وأن لا يفرّوا، وعلى الموت {فَعَلِمَ} الله {مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من الصدق والوفاء {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً} هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)} {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} من خيبر {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} أي لم يزل متصفاً بذلك.
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)} {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} من الفتوحات {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} غنيمة خيبر {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} في عيالكم لما خرجتم وهمت بهم اليهود فقذف الله في قلوبهم الرعب {وَلِتَكُونَ} أي المعجلة عطف على مقدّر، أي لتشكروه {ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} في نصرهم {وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً} أي طريق التوكل عليه وتفويض الأمر إليه تعالى.
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)} {وأخرى} صفة مغانم مقدّرا مبتدأ {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} هي فارس والروم {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} علم أنها ستكون لكم {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً} أي لم يزل متصفاً بذلك.
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)} {وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ} بالحديبية {لَوَلَّوُاْ الأدبار ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يحرسهم {وَلاَ نَصِيراً}.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} {سُنَّةَ الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله من هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين أي سَنَّ الله ذلك سُنَّة {التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} منه.
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)} {وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} بالحديبية {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} فإنّ ثمانين منهم طافوا بعسكركم ليصيبوا منكم فأُخذوا وأُتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم فكان ذلك سبب الصلح {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} بالياء والتاء أي لم يزل متصفاً بذلك.
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)} {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} أي عن الوصول إليه {والهدى} معطوف على كُمْ {مَعْكُوفاً} محبوساً حال {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أي مكانه الذي ينحر فيه عادة وهو الحرم بدل اشتمال {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات} موجودون بمكة مع الكفار {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} بصفة الإِيمان {أن تَطَئُوهم} أي تقتلوهم مع الكفار لو أذن لكم في الفتح بدل اشتمال من هم {فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ} أي إثم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} منكم به وضمائر الغيبة للصنفين بتغليب الذكور وجواب «لولا» محذوف: أي لأذن لكم في الفتح لكن لم يؤذن فيه حينئذ {لّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} كالمؤمنين المذكورين {لَوْ تَزَيَّلُواْ} تميزوا عن الكفار {لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} من أهل مكة حينئذ بأن نأذن لكم في فتحها {عَذَاباً أَلِيماً} مؤلماً.
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)} {إِذْ جَعَلَ} متعلق بعذبنا {الذين كَفَرُواْ} فاعل {فِى قُلُوبِهِمُ الحمية} الأنفة من الشيء {حَمِيَّةَ الجاهلية} بدل من الحمية وهي صدهم النبي وأصحابه عن المسجد الحرام {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} فصالحوهم على أن يعودوا من قابل ولم يلحقهم من الحمية ما لحق الكفار حتى يقاتلوهم {وَأَلْزَمَهُمْ} أي المؤمنين {كَلِمَةَ التقوى} لا إله إلا الله محمد رسول الله وأضيفت إلى التقوى لأنها سببها {وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا} بالكلمة من الكفار {وَأَهْلُهَا} عطف تفسيري {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَئ عَلِيماً} أي لم يزل متصفاً بذلك ومن معلوماته تعالى أنهم أهلها.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق} رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم عام الحديبية قبل خروجه أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين ويحلقون ويقصرون فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا فلما خرجوا معه وصدهم الكفار بالحديبية ورجعوا وشق عليهم ذلك وراب بعض المنافقين نزلت. وقوله «بالحق» متعلق بصدق أو حال من الرؤيا وما بعدها تفسيرها {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاءَ الله} للتبرك {ءَامِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ} أي جميع شعورها {وَمُقَصِّرِينَ} بعض شعورها، وهما حالان مقدّرتان {لاَ تخافون} أبداً {فَعَلِمَ} في الصلح {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ} من الصلاح {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ} أي الدخول {فَتْحاً قَرِيباً} هو فتح خيبر وتحققت الرؤيا في العام القابل.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ} أي دين الحق {عَلَى الدين كُلّهِ} على جميع باقي الأديان {وكفى بالله شَهِيداً} أنك مرسل بما ذكر كما قال الله تعالى:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} {مُحَمَّدٌ} مبتدأ {رَسُولِ الله} خبره {والذين مَعَهُ} أي أصحابه من المؤمنين مبتدأ خبره {أَشِدَّاءُ} غلاظ {عَلَى الكفار} لا يرحمونهم {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} خبر ثان، أي متعاطفون متوادّون كالوالد مع الولد {تَرَاهُمْ} تبصرهم {رُكَّعاً سُجَّداً} حالان {يَبْتَغُونَ} مستأنف يطلبون {فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ} علاماتهم مبتدأ {فِى وُجُوهِهِمْ} خبره وهو نور وبياض يُعْرَفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا {مِّنْ أَثَرِ السجود} متعلق بما تعلق به الخبر، أي كائنة. وأعرب حالاً من ضميره المنتقل إلى الخبر {ذلك} أي الوصف المذكور {مّثْلُهُمْ} صفتهم مبتدأ {فِي التوراة} خبره {وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل} مبتدأ وخبره {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ} بسكون الطاء وفتحها: فراخه {فَآزَرَهُ} بالمد والقصر. قواه وأعانه {فاستغلظ} غلظ {فاستوى} قوي واستقام {على سُوقِهِ} أصوله جمع ساق {يُعْجِبُ الزراع} أي زرَّاعه لحسنه، مثّل الصحابة رضي الله عنهم بذلك لأنهم بدأوا في قلة وضعف فكثروا وقووا على أحسن الوجوه {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} متعلق بمحذوف دل عليه ما قبله، أي شبهوا بذلك {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم} أي الصحابة ومن لبيان الجنس لا للتبعيض لأنهم كلهم بالصفة المذكورة {مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} الجنة وهما لمن بعدهم أيضاً كما في آيات.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ} من قدم بمعنى تقدم أي لا تتقدموا بقول ولا فعل {بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} المبلغ عنه، أي بغير إذنهما {واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ} لقولكم {عَلِيمٌ} بفعلكم نزلت في مجادلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند النبي صلى الله عليه وسلم في تأمير الأقرع بن حابس أو القعقاع بنمعبد.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} ونزل فيمن رفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم} إذا نطقتم {فَوْقَ صَوْتِ النبى} إذا نطق {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول} إذا ناجيتموه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} بل دون ذلك إجلالاً له {أَن تَحْبَطَ أعمالكم وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين.
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} ونزل فيمن كان يخفض صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم. {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن} اختبر {الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} أي لتظهر منهم {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} الجنة.
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} ونزل في قوم جاؤوا وقت الظهيرة والنبي صلى الله عليه وسلم في منزله فنادوه {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرآءِ الحجرات} حجرات نسائه صلى الله عليه وسلم جمع حجرة وهي ما يحجر عليه من الأرض بحائط ونحوه وكان كل واحد منهم نادى خلف حجرة لأنهم لم يعلموه في أي حجرة، مناداة الأعراب بغلظة وجفاء {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فيما فعلوه محلَّك الرفيع وما يناسبه من التعظيم.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} أنهم في محل رفع بالابتداء، وقيل فاعل لفعل مقدر، أي ثبت {حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب منهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} ونزل في الوليد بن عقبة وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقا فخافهم لترة كانت بينه وبينهم في الجاهلية فرجع وقال إنهم منعوا الصدقة وهموا بقتله فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم فجاؤوا منكرين ما قاله عنهم. {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} خبر {فَتَبَيَّنُواْ} صدقه من كذبه، وفي قراءة «فتثبتوا» من الثبات {أن تُصِيبُواْ قَوْماً} مفعول له أي خشية ذلك {بِجَهَالَةٍ} حال من الفاعل أي جاهلين {فَتُصْبِحُواْ} تصيروا {على مَا فَعَلْتُمْ} من الخطأ بالقوم {نادمين} وأرسل صلى الله عليه وسلم إليهم بعد عودهم إلى بلادهم خالداً فلم ير فيهم إلا الطاعة والخير فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فلا تقولوا الباطل فإن الله يخبره بالحال {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الأمر} الذي تخبرون به على خلاف الواقع فيرتب على ذلك مقتضاه {لَعَنِتُّمْ} لأثمتم دونه إثم التسبب إلى المرتب {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ} حسَّنه {فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} استدراك من حيث المعنى دون اللفظ لأن من حبب إليه الإِيمان الخ غايرت صفته صفة من تقدم ذكره {أولئك هُمُ} فيه التفات عن الخطاب {الراشدون} الثابتون على دينهم.
{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} {فَضْلاً مِّنَ الله} مصدر منصوب بفعله المقدر، أي أفضل {وَنِعْمَةً} منه {والله عَلِيمٌ} بهم {حَكِيمٌ} في إنعامه عليهم.
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين} الآية، نزلت في قضية هي أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حماراً ومرّ على ابن أبيّ فبال الحمار فسدّ ابن أبيّ أنفه فقال ابن رواحة: والله لبول حماره أطيب ريحاً من مسكك، فكان بين قوميهما ضرب بالأيدي والنعال والسعف {اقتتلوا} جُمِعَ نظراً إلى المعنى لأن كل طائفة جماعة. وقرئ «اقتتلتا» {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ثني نظراً إلى اللفظ {فَإِن بَغَتْ} تعدّت {إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِئ} ترجع {إلى أَمْرِ الله} الحق {فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بالإِنصاف {وَأَقْسِطُواْ} أعدلوا {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين}.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} في الدين {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إذا تنازعا، وقرئ «إخوتكم» بالفوقانية {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ} الآية نزلت في وفد تميم حين سخروا من فقراء المسلمين كعمار وصهيب، والسخرية: الازدراء والاحتقار {قَوْمٌ} أي رجال منكم {مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} عند الله {وَلاَ نِسآءٌ} منكم {مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} لا تعيبوا فتعابوا، أي لا يعب بعضكم بعضاً {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالالقاب} لا يدعو بعضكم بعضا بلقب يكرهه، ومنه يا فاسق يا كافر {بِئْسَ الاسم} أي المذكور من السخرية واللمز والتنابز {الفسوق بَعْدَ الإيمان} بدل من الاسم لإِفادة أنه فسق لتكرره عادة {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} من ذلك {فأولئك هُمُ الظالمون}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} {ياأيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} أي مأثم وهو كثير كظنّ السوء بأهل الخير من المؤمنين وهم كثير بخلافه بالفساق منهم فلا إثم فيه في نحو ما يظهر منهم {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} حذف منه إحدى التاءين: لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} لا يذكره بشيء يكرهه وإن كان فيه {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} بالتخفيف والتشديد أي لا يحسن به {فَكَرِهْتُمُوهُ} أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته وقد عرض عليكم الثاني فكرهتموه فاكرهوا الأوّل {واتقوا الله} أي عقابه في الاغتياب بأن تتوبوا منه {إِنَّ الله تَوَّابٌ} قابل توبة التائبين {رَّحِيمٌ} بهم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} {ياأيها الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} آدم وحوّاء {وجعلناكم شُعُوباً} جمع شعب بفتح الشين هو أعلى طبقات النسب {وَقَبَآئِلَ} هي دون الشعوب وبعدها العمائر ثم البطون ثم الأفخاذ ثم الفصائل آخرها مثاله خزيمة: شعب، كنانة قبيلة. قريش عِمارة بكسر العين قصيّ: بطن، هاشم فخذ. العباس فصيلة {لِتَعَارَفُواْ} حذف منه إحدى التاءين ليعرف بعضكم بعضا لا لتفاخروا بعلوّ النسب، وإنما الفخر بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم إِنَّ الله عَلِيمٌ} بكم {خَبِيرٌ} ببواطنكم.
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} {قَالَتِ الأعراب} نفر من بني أسد {ءَامَنَّا} صدّقنا بقلوبنا {قُلْ} لهم {لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} أي انقدنا ظاهراً {وَلَمَّا} أي لم {يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ} إلى الآن لكنه يتوقع منكم {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} بالإِيمان وغيره {لاَ يَلِتْكُمْ} بالهمز وتركه وبإبداله ألفاً: لا ينقصكم {مِّنْ أعمالكم} من ثوابها {شَيْئاً إِنَّ الله غَفُورٌ} للمؤمنين {رَّحِيمٌ} بهم.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} {إِنَّمَا المؤمنون} أي الصادقون في إيمانهم كما صرح به بعد {الذين ءَامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} لم يشكّوا في الإِيمان {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله} فجهادهم يظهر بصدق إيمانهم {أولئك هُمُ الصادقون} في إيمانهم، لا من قالوا آمنا ولم يوجد منهم غير الإِسلام.
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)} {قُلْ} لهم {أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ}؟ مضعّف «علم» بمعنى شعر أي أَتُشْعِرونَه بما أنتم عليه في قولكم آمنا {والله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتاله منهم {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم} منصوب بنزع الخافض الباء ويقدّر قبل أن في الموضعين {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان إِنُ كُنتُمْ صادقين} في قولكم آمنا.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} أي ما غاب فيهما {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} بالياء والتاء لا يخفى عليه شيء منه.
{ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1)} {ق} الله أعلم بمراده به {ق والقرءان} الكريم ما آمن كفار مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)} {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ} رسول من أنفسهم يخوّفهم بالنار بعد البعث {فَقَالَ الكافرون هذا} الإِنذار {شَئ عَجِيبٌ}.
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} {أَءِذَا} بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين {مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} نرجع؟ {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} في غاية البعد.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)} {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض} تأكل {مِنْهُمْ وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ} هو اللوح المحفوظ فيه جميع الأشياء المقدرة.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} القرآن {لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ} في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن {فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} مضطرب قالوا مرة: ساحر وسحر، ومرة: شاعر وشعر، ومرة: كاهن وكهانة.
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ} بعيونهم معتبرين بعقولهم حين أنكروا البعث {إِلَى السماء} كائنة {فَوْقَهُمْ كَيْفَ بنيناها} بلا عَمَد {وزيناها} بالكواكب {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} شقوق تعيبها؟.
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)} {والأرض} معطوف على موضع إلى السماء كيف {مددناها} دحوناها على وجه الماء {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} جبالاً تثبتها {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} صنف {بَهِيجٍ} يبهج به لحسنه.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} {تَبْصِرَةً} مفعول له: أي فعلنا ذلك تبصيراً منا {وذكرى} تذكيراً {لّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} رجَّاع إلى طاعتنا.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)} {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاءً مباركا} كثير البركة {فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات} بساتين {وَحَبَّ} الزرع {الحصيد} المحصود.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)} {والنخل باسقات} طِوَالاً حال مقدّرة {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} متراكب بعضه فوق بعض.
{رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} {رِّزْقاً لّلْعِبَادِ} مفعول له {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} يستوي فيه المذكر والمؤنث {كذلك} أي مثل هذا الإِحياء {الخروج} من القبور فكيف تنكرونه؟ والاستفهام للتقرير والمعنى أنهم نظروا وعلموا ما ذكر.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)} {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} تأنيث الفعل بمعنى قوم {وأصحاب الرس} هي بئر كانوا مقيمين عليها بمواشيهم يعبدون الأصنام، ونبيهم: قيل حنظلة بن صفوان وقيل غيره {وَثَمُودُ} قوم صالح.
{وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)} {وَعَادٌ} قوم هود {وَفِرْعَوْنُ وإخوان لُوطٍ}.
{وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)} {وأصحاب الأيكة} أي الغيضة قوم شعيب {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} هو ملك كان باليمن أسلم ودعا قومه إلى الإِسلام فكذبوه {كُلٌّ} من المذكورين {كَذَّبَ الرسل} كقريش {فَحَقَّ وَعِيدِ} وجب نزول العذاب على الجميع فلا يضيق صدرك من كفر قريش بك.
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} أي لم نعي به فلا نعيا بالإِعادة {بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ} شكّ {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ} حال بتقدير نحن {مَا} مصدرية {تُوَسْوِسُ} تحدّث {بِهِ} الباء زائدة أو للتعدية، والضمير للإنسان {نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} بالعلم {مِنْ حَبْلِ الوريد} الإِضافة للبيان والوريدان عرقان بصفحتي العنق.
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)} {إِذْ} منصوبة باذكر مقدّراً {يَتَلَقَّى} يأخذ ويثبت {المتلقيان} الملكان الموكلان بالإِنسان ما يعمله {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} منه {قَعِيدٌ} أي قاعدان وهو مبتدأ خبره ما قبله.
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ} حافظ {عَتِيدٌ} حاضر، وكل منهما بمعنى المثنى.
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} غمرته وشدّته {بالحق} من أمر الآخرة حتى يراها المنكر لها عياناً وهو نفس الشدّة {ذلك} أي الموت {مَا كُنتَ مِّنْهُ تَحِيدُ} تهرب وتفزع.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)} {وَنُفِخَ فِى الصور} للبعث {ذلك} أي يوم النفخ {يَوْمَ الوعيد} للكفار بالعذاب.
{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} {وَجَاءَتْ} فيه {كُلُّ نَفْسٍ} إلى المحشر {مَّعَهَا سَائِقٌ} ملك يسوقها إليه {وَشَهِيدٌ} يشهد عليها بعملها وهو الأيدي والأرجل وغيرها ويقال للكافر.
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} {لَّقَدْ كُنتَ} في الدنيا {فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} النازل بك اليوم {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ} أزلنا غفلتك بما تشاهده اليوم {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} حادٌّ تدرك به ما أنكرته في الدنيا.
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)} {وَقَالَ قَرِينُهُ} الملك الموكل به {هذا مَا} أي الذي {لَدَىَّ عَتِيدٌ} حاضر فيقال لمالك.
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)} {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ} أي: ألق ألق أو ألقيَنْ وبه قرأ الحسن فأبدلت النون ألفاً {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} معاند للحق.
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)} {مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} كالزكاة {مُعْتَدٍ} ظالم {مُّرِيبٍ} شاكّ في دينه.
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)} {الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ} مبتدأ، ضمّن معنى الشرط خبره {فَأَلْقِيَاهُ فِى العذاب الشديد} تفسيره مثل ما تقدّم.
{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)} {قَالَ قرِينُهُ} الشيطان {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} أضللته {ولكن كَانَ فِى ضلال بَعِيدٍ} فدعوته فاستجاب لي، وقال هو أطغاني بدعائه لي.
{قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)} {قَالَ} تعالى {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ} أي ما ينفع الخصام هنا {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم} في الدنيا {بالوعيد} بالعذاب في الآخرة لو لم تؤمنوا ولا بدّ منه.
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} {مَا يُبَدَّلُ} يُغيَّر {القول لَدَىَّ} في ذلك {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} فأعذبهم بغير جرم، وظلام بمعنى ذي ظُلْمَ لقوله {لاَ ظُلْمَ اليَوْمَ} [17: 40].
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} {يَوْمَ} ناصبه ظلاَّم {نَّقُولُ} بالنون والياء {لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت} استفهام تحقيق لوعده بملئها {وَتَقُولُ} بصورة الاستفهام كالسؤال {هَلْ مِن مَّزِيدٍ}؟أي، لا أسع غير ما امتلأت به، أي قد امتلأت.
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)} {وَأُزْلِفَتِ الجنة} قرِّبت {لّلْمُتَّقِينَ} مكاناً {غَيْرَ بَعِيدٍ} منهم فيرونها، ويقال لهم:
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)} {هذا} المرئيّ {مَّا تُوعَدُونَ} بالتاء والياء في الدنيا ويبدل من «للمتقين» قوله {لِكُلِّ أَوَّابٍ} رجَّاع إلى طاعة الله {حَفِيظٍ} حافظ لحدوده.
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)} {مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب} خافه ولم يره {وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} مقبل على طاعته.
{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)} ويقال للمتقين أيضاً {ادخلوها بِسَلامٍ} أي سالمين من كل مخوف أو مع سلام أي سلموا وادخلوا {ذلك} اليوم الذي حصل فيه الدخول {يَوْمُ الخلود} الدوام في الجنة.
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} {لَهُمْ مَّا يَشَآءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} زيادة على ما عملوا وطلبوا.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)} {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ} أي أهلكنا قبل كفار قريش قروناً كثيرة من الكفار و{هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً} قوّة {فَنَقَّبُواْ} فتشوا {فِى البلاد هَلْ مِن مَّحِيصٍ} لهم أو لغيرهم من الموت؟ فلم يجدوا.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} {إِنَّ فِى ذَلِكَ} المذكور {لِذِكْرَى} لعظة {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} عقل {أَوْ أَلْقَى السمع} استمع الوعظ {وَهُوَ شَهِيدٌ} حاضر القلب.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} أوّلها الأحد وآخرها الجمعة {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} تعب نزل ردّاً على اليهود في قولهم: إن الله استراح يوم السبت، وانتفاء التعب عنه بتنزهه تعالى عن صفات المخلوقين ولعدم المماسة بينه وبين غيره {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: 36].
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)} {فاصبر} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم {على مَا يَقُولُونَ} أي اليهود وغيرهم من التشبيه والتكذيب {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} صل حامداً {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} أي صلاة الصبح {وَقَبْلَ الغروب} أي صلاة الظهر والعصر.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} {وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ} أي صلِّ العشاءين {وأدبار السجود} بفتح الهمزة جمع دبر وكسرها مصدر أدبر أي صلِّ النوافل المسنونة عقب الفرائض وقيل المراد حقيقة التسبيح في هذه الأوقات ملابساً للحمد.
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)} {واستمع} يا مخاطب مقولي {يَوْمَ يُنَادِ المناد} هو إسرافيل {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} من السماء وهو صخرة بيت المقدس أقرب موضع من الأرض إلى السماء يقول: أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرّقة إنّ الله يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء.
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)} {يَوْمَ} بدل من «يوم» قبله {يَسْمَعُونَ} أي الخلق كلهم {الصيحة بالحق} بالبعث وهي النفخة الثانية من إسرافيل ويحتمل أن تكون قبل ندائه وبعده {ذلك} أي يوم النداء والسماع {يَوْمُ الخروج} من القبور، وناصب «يوم» الثانية (ينادي) مقدّراً، أي يعلمون عاقبة تكذيبهم.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)} {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير}.
{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)} {يَوْمَ} بدل من يوم قبله وما بينهما اعتراض {تَشَقَّقُ} بتخفيف الشين وتشديدها بإدغام التاء الثانية في الأصل فيها {الارض عَنْهُمْ سِرَاعاً} جمع سريع حال من مقدّر، أي فيخرجون مسرعين {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} فيه فصل بين الموصوف والصفة بمتعلقها للاختصاص وهو لا يضرّ وذلك إشارة إلى معنى الحشر المخبر به عنه، وهو الإِحياء بعد الفناء والجمع للعرض والحساب.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي كفار قريش {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} تجبرهم على الإِيمان وهذا قبل الأمر بالجهاد [4: 47] {فَذَكِّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وهم المؤمنون.
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)} {والذريات} الرياح تذرو التراب وغيره {ذَرْواً} مصدر ويقال تذريه ذرياً: تَهُبُ به.
{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)} {فالحاملات} السحب تحمل الماء {وِقْراً} ثقلاً مفعول الحاملات.
{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)} {فالجاريات} السفن تجري على وجه الماء {يُسْراً} بسهولة مصدر في موضع الحال، أي ميسَّرة.
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} {فالمقسمات أَمْراً} الملائكة تقسم الأرزاق والأمطار وغيرها بين البلاد والعباد.
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)} {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} ما مصدرية، أي إن وعدهم بالبعث وغيره {لَصَادِقٌ} لوعد صادق.
{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} {وَإِنَّ الدين} الجزاء بعد الحساب {لَوَاقِعٌ} لا محالة.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)} {والسماء ذَاتِ الحبك} جمع حبيكة كطريقة وطرق أي صاحبة الطرق في الخلقة كالطريق في الرمل.
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)} {إِنَّكُمْ} يا أهل مكة في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن {لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} قيل شاعر ساحر كاهن، شعر سحر كهانة.
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} {يُؤْفَكُ} يصرف {عَنْهُ} عن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن أي عن الإِيمان به {مَنْ أُفِكَ} صرف عن الهداية في علم الله تعالى.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} {قُتِلَ الخراصون} لعن الكذّابون أصحاب القول المختلف.
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)} {الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ} جهل يغمرهم {سَاهُونَ} غافلون عن أمر الآخرة.
{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)} {يُسْئَلُونَ} النبي استفهام استهزاء {أَيَّانَ يَوْمُ الدين} أي متى مجيئه؟
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} وجوابهم: يجيء {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} أي يعذبون فيها.
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} ويقال لهم حين التعذيب: {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} تعذيبكم {هذا} التعذيب {الذى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في الدنيا استهزاء.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)} {إِنَّ المتقين فِى جنات} بساتين {وَعُيُونٍ} تجري فيها.
{آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)} {ءَاخِذِينَ} حال من الضمير في خبر إنّ {مَا ءاتاهم} أعطاهم {رَّبُّهُمْ} من الثواب {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ} أي دخولهم الجنة {مُحْسِنِينَ} في الدنيا.
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} {كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} ينامون. وما زائدة، ويهجعون خبر كان و«قليلاً» ظرف أي ينامون في زمن يسير من الليل ويصلون أكثره.
{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يقولون: اللهم اغفر لنا.
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} {وَفِى أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم} الذي لا يسأل لتعففه.
{وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)} {وَفِى الأرض} من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبات وغيرها {ءايات} دلالات على قدرة الله سبحانه وتعالى ووحدانيته {لِّلْمُوقِنِينَ}.
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} {وَفِى أَنفُسِكُمْ} آيات أيضاً من مبدأ خلقكم إلى منتهاه وما في تركيب خلقكم من العجائب {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} ذلك فتستدلون به على صانعه وقدرته.
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} {وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} أي المطر المسبب عنه النبات الذي هو رزق {وَمَا تُوعَدُونَ} من المآب والثواب والعقاب أي مكتوب ذلك في السماء.
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} {فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ} أي ما توعدون {لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} برفع «مثل» صفة و«ما» مزيدة وبفتح اللام مركبة مع ما، المعنى: مثل نطقكم في حقيقته أي معلوميته عندكم ضرورة صدوره عنكم.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)} {هَلُ أَتَاكَ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم {حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم المكرمين} وهم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة، منهم جبريل.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)} {إِذْ} ظرف لحديثُ ضيف {دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا} أي هذا اللفظ {قَالَ سلام} أي هذا اللفظ {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} لا نعرفهم قال ذلك في نفسه وهو خبر مبتدأ مقدّر أي هؤلاء.
{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)} {فَرَاغَ} مال {إلى أَهْلِهِ} سرّا {فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ} وفي سورة (هود) {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [69: 11] أي مشويّ.
{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)} {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ}؟ عرض عليهم الأكل فلم يجيبوا.
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)} {فَأَوْجَسَ} أضمر في نفسه {مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ} إنا رسل ربك {وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ} ذي علم كثير وهو إسحاق، كما ذكر في هود [71: 11].
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)} {فَأَقْبَلَتِ امرأته} سارة {فِى صَرَّةٍ} صيحة حال، أي جاءت صائحة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} لطمته {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} لم تلد قط وعمرها تسعة وتسعون سنة وعمر إبراهيم مائة سنة، أو عمره مائة وعشرون سنة وعمرها تسعون سنة.
{قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)} {قَالُواْ كذلك} أي مثل قولنا في البشارة {قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحكيم} في صنعه {العليم} بخلقه.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)} {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} شأنكم {أَيُّهَا المرسلون}.
{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)} {قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} كافرين أي قوم لوط.
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)} {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ} يطبخ في النار.
{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)} {مُّسَوَّمَةً} معلمة عليها اسم من يرمى بها {عِندَ رَبِّكَ} ظرف لها {لِلْمُسْرِفِينَ} بإتيانهم الذكور مع كفرهم.
{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)} {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا} أي قرى قوم لوط {مِنَ المؤمنين} لإِهلاك الكافرين.
{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} وهم لوط وابنتاه وصفوا بالإِيمان والإِسلام أي هم مصدّقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات.
{وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)} {وَتَرَكْنَا فِيهَا} بعد إهلاك الكافرين {ءايَةً} علامة على إهلاكهم {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم} فلا يفعلون مثل فعلهم.
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)} {وَفِى موسى} معطوف على «فيها» المعنى وجعلنا في قصة موسى آية {إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ} ملتبساً {بسلطان مُّبِينٍ} بحجة واضحة.
{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)} {فتولى} أعرض عن الإِيمان {بِرُكْنِهِ} مع جنوده لأنهم له كالركن {وَقَالَ} لموسى هو {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ}.
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} {فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم} طرحناهم {فِي اليم} البحر فغرقوا {وَهُوَ} أي فرعون {مُلِيمٌ} آت بما يلام عليه من تكذيب الرسل ودعوى الربوبية.
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)} {وَفِى} إهلاك {عَادٍ} آية {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} هي التي لا خير فيها لأنها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهي الدبور.
{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} {مَا تَذَرُ مِن شَئ} نفس أو مال {أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} كالبالي المتفتت.
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)} {وَفِى} إهلاك {ثَمُودَ} آية {إِذْ قِيلَ لَهُمْ} بعد عقرهم الناقة {تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} أي إلى انقضاء آجالكم، كما في آية {تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ} [65: 11].
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)} {فَعَتَوْاْ} تكبّروا {عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} أي عن امتثاله {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} بعد مضي الثلاثة أيام أي الصيحة المهلكة {وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي بالنهار.
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)} {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} أي ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} على من أهلكهم.
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)} {وَقَوْمَ نُوحٍ} بالجر عطف على ثمود، أي وفي إهلاكهم بما في السماء والأرض آية وبالنصب أي وأهلكنا قوم نوح {مِن قَبْلُ} أي قبل إهلاك هؤلاء المذكورين {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين}.
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} {والسماء بنيناها بِأَيْدٍ} بقوّة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} قادرون يقال: آد الرجل يئيد قوي، وأوسع الرجل: صار ذا سعة وقوّة.
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)} {والأرض فرشناها} مهدناها {فَنِعْمَ الماهدون} نحن.
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} {وَمِن كُلّ شَئ} متعلق بقوله: {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} صنفين كالذكر والأنثى، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والسهل والجبل، والصيف والشتاء، والحلو والحامض، والنور والظلمة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التاءين من الأصل فتعلمون أن خالق الأزواج فرد فتعبدونه.
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)} {فَفِرُّواْ إِلَى الله} أي إلى ثوابه من عقابه بأن تطيعوه ولا تعصوه {إِنّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بيّن الإِنذار.
{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)} {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} يُقَدَّرُ قبل ففرّوا قل لهم.
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} {كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ} هو {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} أي مثل تكذيبهم لك بقولهم: إنك ساحر أو مجنون، تكذيبُ الأمم قبلهم رسلهم بقولهم ذلك.
{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} {أَتَوَاصَوْاْ} كلهم {بِهِ}؟ استفهام بمعنى النفي {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} جمعهم على هذا القول طغيانهم.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)} {فَتَوَلَّ} أعرض {عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} لأنك بلغتهم الرسالة.
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} {وَذَكِّرْ} عظْ بالقرآن {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} من عَلِم الله تعالى أنه يؤمن.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين، لأن الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك بريت هذا القلم لأكتب به، فإنك قد لا تكتب به.
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رِّزْقٍ} لي ولأنفسهم وغيرهم {وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} ولا أنفسهم ولا غيرهم.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} الشديد.
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)} {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم {ذَنُوباً} نصيباً من العذاب {مِّثْلَ ذَنُوبِ} نصيب {أصحابهم} الهالكين قبلهم {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} بالعذاب إن أخّرتهم إلى يوم القيامة.
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)} {فَوَيْلٌ} شدّة عذاب {لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ} في {يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ} أي يوم القيامة.
|